أخبار العرب في أوروبا – فرنسا
غيب الموت الممثل والكوميدي الفرنس الشهير غي بيدوس عن عمر ناهز 85 عاما ليفقد عالم الفن في فرنسا واحدا من أحسن وأخلص ممثليه.
عرف “غي بيدوس” بحبه للجزائر التي ولد وترعرع فيها حتى عمر الـ16، لكن حياته الفنية والمسرحية ازدهرت في فرنسا إذ يعتبر من بين الفنانين القلائل الذين أثروا الساحة بالعديد من المسرحيات والكتب والأفلام على مدار سنوات. وعاش “غي بيدوس” مخلصا لمواقفه المناهضة لكل أشكال العنصرية وداعما للأقليات.
وقد أعلن ابنه “نيكولا” وفاة والده في تغريدة على حسابه عبر توتير كاتبا “كان جميلا ومضحكا وحرا وشجاعا. كم أنا فخور بأن تكون والدي، وأوصل قبلاتي إلى “بيير ديبروج “و”جان لو أبادي” (هما ممثلان فرنسيان آخران) كونكم كلكم في الجنة الآن”.
ولد “غي بيدوس” في الجزائر في 1934 وعاش طفولته هناك متنقلا بين العاصمة ومدينتي عنابة وسوق أهراس “شرق البلاد” وسط عائلة لم توفر له الحنان الذي يحلم به كل طفل، حسب كتاباته. بل كان يعاني من العنف الأسري، ولا سيما من قبل والدته التي كانت تضربه من حين إلى آخر، وقد قال عنها الفنان في أحد لقاءاته مع الصحافة الفرنسية “لكن رغم هذه المعاناة، كنت أكن لها احتراما كبيرا”.
رجل القناعات السياسية وصديق البسطاء عرف “غي بيدوس” بنضاله ضد جميع أنواع الاستعمار والأفكار العنصرية، ولا سيما تلك التي كان يسوقها “جان ماري لوبان”، زعيم حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف السابق في الثمانينات. كما كان يقف دائما بجانب الأقليات والمهاجرين والطبقات الكادحة، إذ دافع عنهم بقوة من خلال أعماله الفنية أو عبر دعم جمعيات ممثلة لهذه الأقليات.
دافع “غي بيدوس” أيضا عن المهاجرين غير الشرعيين في التسعينيات، كالذين كانوا يقبعون في مخيمات بمدينة كاليه “شمال فرنسا” في انتظار العبور باتجاه بريطانيا. سياسيا، كان هذا الممثل الشهير محسوبا على اليسار الفرنسي وكان ينتقد بشراسة الأحزاب اليمينية من دون أن يرحم الحزب الاشتراكي الذي حكم فرنسا لسنوات. وقال في هذا الخصوص ” لا يمكن أن أشعر بخيبة أمل إزاء أحزاب اليمين لأنني لا أبالي أبدا بمعسكر اليمين. معسكر اليسار هو الذي يخيبني دائما”.
“غي بيدوس” صديق الجزائر
وصف بـ”القناص” بسبب الانتقادات اللاذعة التي غالبا ما كان يوجهها إلى المسؤولين السياسيين مثل جان ماري لوبان ونيكولا ساركوزي ونادين مورانو… عبر مسرحياته أو أعماله الفنية بشكل عام. ما جعل العديد من هؤلاء السياسيين يرفعون دعاوى قضائية عليه. وقال “يصفونني بالقناص وبالرجل العنيد، لكن أنا أرفض هذه التوصيفات. لا أسعى إلى تجريح الناس في جميع الحالات لكن يمكن أن أكون عنيفا في بعض الأحيان”.
وكان من المعجبين بالكاتب الفرنسي الجزائري ألبير كامو. وكان يسافر من حين إلى آخر إلى الجزائر ليستذكر الأيام التي قضاها هناك، فيما كان يعتبر، رفقة الممثل روجيه حنين الذي دفن في الجزائر، وهو من بين الأصدقاء الأوفياء لهذا البلد، وبقيت علاقتهم به قوية حتى بعد استقلاله في العام 1962.
“شعرت بأنني كنت مهاجرا في فرنسا”
وفي حوار مع قناة ” تي في 5″ الفرنسية، تحدث “غي بيدوس” مطولا عن عودته إلى الجزائر في 2014 بمناسبة معرض الكتاب الدولي وبدعوة من وزارة الثقافة الجزائرية حيث وقع كتابه هناك. واغتنم الفرصة كي يعرض للمرة الأخيرة مسرحيته ” الستار” أمام الجمهور الجزائري الذي قال عنه “كان جمهورا رائعا يتابع العرض بدقة ويصفق كثيرا. لم أرغب يومها انتقاد السياسة الجزائرية بل اكتفيت فقط بالقول كيف يمكن للرئيس بوتفليقة أن يذهب لكي يعالج في مستشفى “فال دو غراس” الفرنسي بينما البلاد غنية بالنفط وبالأموال. فضحك الجمهور وصفق بقوة”.
غادر غي بيدوس الجزائر في العام 1949 وعمره 16 سنة. “شعرت بأنني مهاجر في فرنسا. الفرنسيون كانوا يسموننا “الأقدام السوداء” ولا يعاملوننا كباقي الفرنسيين الآخرين”. ولم يتوقف عن انتقاد سياسات الحكومات الفرنسية المتعاقبة سواء كانت يسارية أو يمينية، إزاء الموضوع.
مسيرة فنية حافلة بالإنجازات
كانت مسيرة “غي بيدوس” الفنية حافلة بالإنجازات سواء كان في مجال المسرح أو الفكاهة أو السينما. ومن بين هذه الإنجازات يمكن ذكر فيلم “سنذهب جميعا إلى الجنة” (1977) و “ماذا لو عشنا كلنا معا” (2011) و “الأصدقاء” (1965) و “المعزز” (1970).
سطع نجم غي بيدوس في عالم المسرح إذ يعتبر من بين أبرز ممثليه. وكان قد لعب في أكثر من عشرين مسرحية نالت اعجاب الجمهور سواء كان في فرنسا أو في الخارج. فيما توج في 1990 بجائزة “موليير” للمسرح، وهي أعرق الجوائز في هذا المجال. وأسدل غي بيدوس الستار على مشواره المسرحي الطويل بمسرحية عنوانها “الستار” قدمها في قاعات كثيرة مثل قاعة “الأولمبيا” العريقة بباريس. لكن آخر عرض قدمه كان ذلك في الجزائر في 2014.
اقرأ أيضا: وفاة الأديب والدبلوماسي اللبناني “صلاح ستيتية” في باريس
ويضاف إلى مشواره الفني فن الكتابة حيث نشر هذا الفنان عددا كبيرا من الكتب أبرزها “في انتظار القنبلة” (1980)، “ذاكرة ما وراء البحار” (2005) و”سأتذكر كل شيء” (2015) يروي فيه قصة حياته الطويلة. فيما حمل آخر كتاب له عنوان “ساعة اسوداد الريف” (2017).
منذ ثلاث سنوات على الأقل، خفف غي بيدوس من نشاطاته الفنية ليقضي أوقاتا أكثر مع عائلته من دون أن يبتعد كثيرا عن عالم الفن الذي كان رفيقه المخلص لأكثر من ستين سنة. رحل الفنان وبقيت أعماله للأبد.