أخبار العرب في أوروبا – ايطاليا
باعت عصابة إجرامية على صلة بالمافيا في اقليم “كالابريا” الإيطالي سندات مالية لبنوك استثمارية وصناديق التقاعد بنجاح على مدى سنوات، اذ رافق المعاملات مجموعة التدقيق والاستشارات الرائدة (EY)، ولم يشك أحد في وجود عمليات نصب أو خداع وعمليات استثمارية خارجة عن القانون.
فضيحة مالية هزت منطقة الاتحاد الأوروبي على خلفية ذلك، اذ تبين أن مستثمرين على شكل مؤسسات، بما في ذلك بنوك وصناديق تقاعد، وظفوا الأموال في سندات صادرة عن المافيا الإيطالية.
ونُفذت العملية بأيدي “ندرانجيتا” (Ndrangheta) الاسم المأخوذ من الكلمة اليونانية( ἀνδραγαθία )، والتي يمكن ترجمتها على أنها “بطولة” أو “البسالة”، وتتمركز هذه العصابة الإجرامية في شبه جزيرة كالابريا، وكانت تاريخيا واحدة من أكبر المجموعات الإجرامية في إيطاليا.
بعد هزيمة المافيا المتمركزة في صقلية، تمكنت هذه المجموعة من الاستيلاء على تجارة المخدرات، والتعاون مع الموردين من أمريكا اللاتينية وآسيا.
وتتميز العصابة “ندرانجيتا”، بعدم وجود تسلسل هرمي صارم داخلها، اذ يتشكل هيكلها من العائلات والجماعات التي لم يُسمح لأحد بالانضمام لها، باستثناء أفراد عائلات “المافيوز”، ولهذا السبب كان العمل الميداني للشرطة ضد المجموعة صعبا، ومن المستحيل إدخال عملاء غرباء لمراقبة المافيا المذكورة، ما سمح لها بتوسيع نشاطها، وبحلول العام 2010، تراوحت مبيعاتها السنوية من 44 إلى 55 مليار يورو.
على الرغم من أن تجارة المخدرات والأسلحة كانت ولا تزال مصدرا رئيسيا للدخل بالنسبة لـ”ندرانجيتا”، فإن المجموعة لم تهمل الأنواع الأخرى من “البزنس”، الأكثر “قيمة واعتبارا” في مختلف المجالات. على سبيل المثال، قطاع الرعاية الصحية في إيطاليا، وفي المقام الأول في جنوب البلاد، لهذا، تم إنشاء العديد من الشركات المشروعة التي شاركت في تقديم الخدمات للمؤسسات الطبية الحكومية، اذ تمكنت من الوصول إلى قاعدة بيانات المستشفيات وغالبا ما كانت تعلم بأن هذا المريض أو ذاك توفي، حتى قبل أن يعرف أقاربه بذلك، وبعد ذلك، كان يتم إقناع الأقارب المذكورين، باختيار شركات دفن الموتى التابعة للمافيا، لكي تشرف على عملية الدفن.
شركات وهمية..
وانتقل اهتمام المافيا المذكورة، في السنوات الأخيرة إلى مجال “التمويل والعمليات المالية المختلفة”، وأظهر تحقيق أجرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، أن هذه العصابة الإجرامية وجدت طريقة للحصول على المال في السوق المالية، وتلقت العديد من الشركات القانونية التابعة في الأصل للمافيا المذكورة، التي تعمل في مجال الخدمات الصحية الحكومية، العديد من الطلبيات من هذه المؤسسات، ما تسبب بظهور ديون مستحقة عليها، في شكل فواتير غير مدفوعة.
وفقا لقوانين الاتحاد الأوروبي، فإن التخلف عن تسديد قيمة الفواتير لفترة معينة من الزمن، يؤدي إلى فرض عقوبات على شكل فوائد مالية. وقد جعل ذلك من هذه الحسابات والفواتير، أداة مالية واعدة.
وبدلا من الذهاب والمطالبة بالأموال من هياكل الدولة في المحكمة، قرروا بيع الديون لشركات وسيطة تم إنشاؤها خصيصا. وقام هؤلاء بدورهم بدمج الحسابات المكتسبة المذكورة مع الأصول الأخرى، وجعلوا كل ذلك ضمانات لسندات تم إصدارها ومن ثم بيعها في السوق المالية.
أمثلة كثيرة من بينها شركة (Chiron)، التي اشترت فواتير طبية غير مسددة بقيمة 50 مليون يورو. ومن بين الشركات التي قدمت هذه الفواتير إلى( Chiron) شركة )Croce Rosa Putrino)، التي قدمت خدمات الإسعاف والجنازة لمستشفى في( Lamezia Terme)، في منطقة كالابريا، و في العام 2018، تم فتح تحقيق ضد الشركة المذكورة، واعتقل 28 شخصا، لكن الأموال دخلت التداول ولم يعد من الممكن سحبها.
ومن الصفقات الأخرى، إصدار سندات تخص أصول مخيم اللاجئين في كالابريا، والذي كان يدار أيضا من قبل مؤسسة تابعة لـ”ندرانجيتا”. وفي العام 2018، تم اتهام إدارة المخيم باختلاس عشرات الملايين من اليورو من الأموال التي خصصها الاتحاد الأوروبي.
السندات المالية “المافيوزية”..
بالنسبة لـ”ندرانجيتا”، كانت كل هذه المعاملات طريقة رائعة لغسل الأموال المريبة، ومن بين المشترين كان مصرف Banca Generalli، أحد أكبر البنوك الاستثمارية الخاصة في أوروبا. استحوذت هذه المؤسسة المالية على أكثر من مليار يورو من الأوراق المالية التي عرضتها المافيا خلال أربع سنوات. تم تقديم الخدمات الاستشارية لها من قبل شركة EY، وهي شركة تدقيق تدخل في قائمة الكبار في هذا المجال. ومن بين المستثمرين أيضا، صناديق التقاعد وصناديق التحوط ومكاتب الاستثمار الأسري.
يذكر أن معظم الأصول التي كانت بمثابة الضمانات لهذه السندات، كانت طبيعية وقانونية. ومع ذلك، فإن قدرة الممولين على مزج فئات مختلفة تماما من الأصول في حزمة واحدة، كانت خطوة مفيدة. يمكن أن نتذكر سندات الرهن العقاري في الولايات المتحدة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما تقترن الديون السيئة بالديون الجيدة وتجتمع معها في سلة واحدة، وتحصل على تصنيف AAA، الذي أصبح أحد مسببات الأزمة المالية العالمية. في حالتنا هذه، لم يتم تصنيف هذه الأوراق المالية، ولكن مع ذلك كانت مطلوبة بشكل كبير.
اقرأ أيضا: ايطاليا.. المنظمات الاجرامية الدولية نشطت بعد فرض اجراءات كورونا
وساعد في نجاح ترويج “السندات المالية المافيوزية”، كون الكثيرين من الممثلين الشباب للأسر والعائلات المدرجة في “ندرانجيتا”، هم من حملة شهادات التعليم العالي، وخاصة الاختصاصات المالية، اذ درس البعض منهم في كلية لندن للاقتصاد، وحصل بعض الشباب على ماجستير في إدارة الأعمال، وكل هذا يسمح لهم بالتعامل بمهارة مع أكثر الأدوات المالية تعقيدا.
قصة السندات المالية المافيوزية أظهرت، أن التوقعات بظهور الشفافية الكاملة في عالم المال، مبالغ فيها إلى حد ما، على الرغم من أن الدول الرائدة قد قطعت شوطا كبيرا في مكافحة التهرب الضريبي والتصدي لمخططات “الأوف شور”، إلا أن المنظمات الإجرامية القديمة على ما يبدو، مثل العائلات الإجرامية في جنوب إيطاليا لا تزال عصية على هيئات تطبيق القانون.