بين الرسم والكلمات.. “رنا كلش” تترجم عشق سورية بطعم القهوة الدمشقية
أخبار العرب في أوروبا – برلين
بين الكتابة والرسم تجد مساحة من الشوق والحنين، لتعبر بلوحاتها الدمشقية المعتقة بطعم القهوة عن عنفوان ثورة تتداول أول عشق متمرد كما كان الثوار في كتب “تشيخوف” و”غوركي”.
وعندما عادت الفنانة السورية “رنا كلش” المقيمة في العاصمة الألمانية “برلين” إلى الرسم بعد انقطاع استمر أربع سنوات، قررت أن تستخدم شكلاً ولوناً مختلف تعبر فيه عن المرأة والاغتراب والحنين إلى الوطن عشق سورية.
“كلش” تقول لـ”أخبار العرب في أوروبا” عن البدايات بعد أن وصلت إلى ألمانيا في العام ٢٠٠١٥: “الفنان هو متمرد وثائر على كل الأعراف والتقاليد بطبيعة الأحوال، وكان للثورة طعم مختلف في حنجرتي، كنت أظن نفسي تلك الثائرة التي تتداول قصائد الثورة وعنفوان أول عشق متمرد كما في كتب أنطون تشيخوف ومكسيم غوركي”. مشيرة إلى أنها “توقفت عن الرسم والكتابة لمدة أربع سنوات، اذ تركت ما بقي لها من الزمن في وطنها سوريا، وما كان لروحها من حداد مديد، على كل ما تم نسفه من إنسانية وحب”.
وتضيف الفنانة “كلش”: “عندما أتحدث عن الفن لا أدري من أين أبدأ ولا أين أنتهي، كل الذي أذكره في عتمة الماضي أن هناك طفلة صغيرة تمسك بيدها قلم رصاص مكسور الاطراف وترسم على الجدران وعلب دخان والدها وكل مساحة بياض تجد أنها مزعجة”. لافتة إلى أنه “مع مرر الوقت تطور الأمر لتجد نفسها ترسم بين شقوق الجدران ثأرا، لتمنح الثغرات والشقوق وجهاً وملامح بشرية”.
الرسم بالقهوة..
أما عن استخدام القهوة في لوحاتها كبديل لأدوات الرسم والألوان توضح الفنانة “رنا”، “خطرت الفكرة، عندما انسكب أول فنجان على أوراقي المبعثرة، وكان للغضب القول الفصل حينها، لذلك قررت بلحظة غضب والهام ألا أنظف مخلفات (حرب البن) على بياض أوراقي، فكانت البداية بوجه رأيته يستجدي ملامحاً، كما كانت شقوق الجدران تستجديني، وثم تحول الخراب البني إلى وجه أعطيه صفة شرعية بالوجود وكانت فكرة الرسم بطعم الدمشقية المعتقة”.
ونظمت الفنانة السورية في ألمانيا العديد من الورشات للتعليم الرسم بالقهوة، اذ كانت مساحة فنية لجمع اللاجئين على نفس الطاولة ومحاولة خلق جو جديد، كما حاولت جمع النساء الشرقيات مع الغربيات وكسر حاجز الاختلاف اللغوي والثقافي بالفن والجمال، الذي لم يحتاج إلى لغات وترجمات معقدة.
إلى جانب ذلك، توضح “كلش”٬ أنه “رغم أن هذه الفكرة كانت بسيطة وساذجة في بدايتها، إلا أنها لاقت تفاعل وقبول الكثيرين، فأقامت في العام ٢٠١٩ ورشة في كل شهر، تحت إشراف منظمة (AsdiQA) البولونية، بالإضافة إلى ورشة للأطفال بالتعاون مع منظمة ( Ich bin hier) و ورشات في مدرسة (Vhs)، وغيرها”.
الرحيل والبداية..
وعن طريق الرحيل والوصول إلى ألمانيا، تقول “كلش”: “كان لطريق هجرتي منفذ واحد أنقذ فيها ضميري من مكان أجبر فيه على الصمت عند كل منحنى، فكان لابد من الرحيل والهجرة، وفي الطريق تعرفت على الحجارة وغربة الأرصفة، وأيقنت كيف يكون لبرد الليل دمغة على جلدي، وكيف يصنع التشرد من الإنسان راكضا لاهثاً لا يريد إلا النجاة”.
وتضيف الفنانة السورية لـ”أخبار العرب في أوروبا” بلغتها الخاصة “كنت المجردة من الهوية والألقاب وكل الخلفيات بعد أن فقدت حقيبتي وأوراقي الثبوتية في البحر، وكانت تلفظ أنفاسها بما فيها وهي تطفو بآخر اللحظات قبل أن يبتلعها الموج وتودعني الوداع الأخير”. موضحة أنها “لم تحزن على أشيائها ولم يكن لها أي قيمة مقابل آلام البرد والتشرد، فهي مجرد لاجئة حرب وصلت في النهاية إلى ألمانيا في أواخر العام ٢٠١٥ لتكون البداية”.
البداية تختلف كثيراً برأي “كلش” إذ أنها نسفت جميع البدايات والنهايات التي عاشتها سابقا من دون أن تتجرد من آلام الروح وحزن طبعته الحرب في محاجرها، وهنا كان لابد للحداد أن يلبس لونه، وللفقر أن يجد طريقا آخر فكانت البدايات من فنجان قهوتها.
وعن مشاركتها في ألمانيا تقول “كلش”: “شاركت في معرض أقيم في متحف فريدلاند مع مجموعة من النساء الألمانيات والعربيات بمساحة مشتركة، واستطعنا من خلالها تكملة بعضنا، وكانت الفكرة برسم نصف لوحة ومن ثم إرسالها الى فنانة مجهولة أخرى لتكملها، بالإضافة إلى رسم نصف لوحتين، اذ أكملت اللوحتين الفنانتين الألمانيتين (هنريكا وكريستين)، وحملت اللوحات اسم (سعاد) و(أعطني يدك)”.
كما شاركت “كلش”، بمعرض مصغر في مركز المنارة وكان خلاصة ورشات نسائية في مساحة للرسم بعيدا عن عوالم الواقع وصعوباته، من خلال لوحتين دمشقيتين من القهوة، ومعرض مشترك في برلين بعنوان “ألوان مهاجرة”.
الرسم بالكلمات..
العلاقة بين الرسم والكتابة أسلوب وعشق آخر للخط العربي ودلالاته التي تعتمد عليه الفنانة “رنا كلش”، فتقول لـ”أخبار العرب في أوروبا”: “لم تكن لوحاتي تكتف بانحناءات الرسم والتشكيل، وأردت دمج شيفرات حروفي فيها، وربما استخدمها لأشتم وألصق التهم وأتغزل، هي حالة للتعبير بالحرف العربي الى جانب الرسم، فكانت اللوحة المكتوبة، عن سبق إصرار”. مشيرة إلى أن “الفن لا يحتاج إلى لغة وترجمة، ومن السهل أن تبكي عن النساء جميعا في مساحة لا تتعدى ٥٠سم، لتكون حالة الغضب والقهر والإصرار في ملامح أنثى”.
وتشير “كلش” إلى أنه “لم تكن للكتابة ذلك العصف الشرس كما الرسم، ولكن في فترة ما كان لابد للحرف أن يتمطى مبعدا الألوان عن عالمها، وكانت بداية تجربتي الكتابية التي أظنها ستبصر يوما الضوء، بهتاف صديقاتي بحصة التعبير مطالبين إياي بقراءة موضوعي، الذي لطالما خرجت به عن النص وقواعده ومطالبه، فلم التزمت بمقدمة ولا بحسن ختام”.
كما تتذكر الفنانة السورية الأوراق الممزقة التي لم تتحول إلى رواية بل ذهبت بين يدي معلمتها، عندما وجدتها مع صديقاتها أثناء الحصة الدراسية، موضحة أنها “كتبت لأسرتها وعن نفسي، وكتبت عن الجميع عندما بدأت الثورة السورية وتنتظر أن ترى النور قريباً”.
الأنثى وطن..
ولأنها أنثى كانت قضية النساء تعنيها فوضعت جينات كل نساء الأرض في لوحاتي لان الانثى وطن، وألغت الحواجز بين كل النساء، بين النساء الوافدات والنساء الألمانيات، فتوضح “كلش”، “عندما كنت أشارك في ورشات مشتركة، أجد العيون البنية والزرقاء قد اتحدت، فانتظمت في المشاركة بشكل دوري على مدار عام كامل، اذ وجدت مساحة مشتركة بين جميع النساء بلا حاجز حضاري او ثقافي او لغوي”. لافتة إلى أن “الورشات تدعم فكرة تكريس دور المرأة في هذا المجتمع واعطائها الخطوط الأولية لتمكينها من عيش واقعها الجديد بقوة، ومنها ورشة قياديات نساء برلين التي بدأت في بداية شهر اكتوبر/ في العام ٢٠٢٠ .”
وعن الاندماج في المجتمع الجديد تشرح الفنانة “كلش”: “عندما اصطدم بمفردة الاندماج لا أدري من أي أبواب التفسير أدخل، لطالما كانت لهذه الكلمة تفسيرات سيئة وأخرى جيدة، ولكن بالنسبة لي هذه الكلمة تعني أن أعيش انسانيتي في عالمي الجديد، مع الاحتفاظ بكل جذوري، والتصالح مع ذاتي القديمة والجديدة، لأنني أشترك مع كل أصحاب هذا البلد بالإنسانية وهذا ما يؤكده الفن”.
بينما تؤكد الفنانة السورية، أن “الإنسان عدو ما يجهل اذ كان للفن فضل في تعريف هذا المحيط الغريب على عادتنا وقيمنا، ولم تكن مجهولة تماما، لأن لوحتها تعبر عنها، وهذا ما ساعدها لإلغاء الحواجز مع المتلقي في أغلب الأحيان”. مشيرة إلى أنها “دعمت فكرة الدمج والتطعيم الحضاري من خلال مشاركتها بورشة على مستوى العينين، والتعرف على مفاهيم جديدة للكلمة، أي أن الاندماج لا يعني التماهي بالمطلق، بل تقبل كل جديد مع الاحتفاظ بالهوية”.
الفنانة السورية “رنا كلش” ابنة دمشق تعبر عن حبها لمدينتها من خلال الذاكرة والحنين والفرح الذي لا بد أن يعود يوماً كأمل متجدد مع كل لوحة فتقول: “أتمنى الآن أن أستطيع حمل رسالة تحمل هويتي كإنسان في الدرجة الاولى، وكلاجئ في الدرجة الثانية، ولا يعنيني ماهي تصورات الغرب عن القادمين الجدد، بقدر ما يعنيني ممارسة فني الذي يحمل ثقافتي وحضارتي”.
وتختم “كلش” “في النهاية نحن أبناء حضارة عريقة ولم نأت من فراغ كما يظن البعض، وطموحي في المستقبل أن أصنع من هذا الفن الذي يعيش بداخلي شيئا يعرف العالم على حضارتنا، واستطيع فضح وكسر و ترجمة كل ما لم يصل عن قصد أو غير قصد، لأنني أومن بأن لكل منا رسالته التي يعبر عنها بطريقته، والفنان يترك رسائله للعالم ويمضي”.