
أخبار العرب في أوروبا-ألمانيا
قبل عشر سنوات، في صيف 2015، عاشت ألمانيا واحدة من أكبر التحولات في تاريخها المعاصر، عندما فتحت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل أبواب البلاد أمام مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الهاربين من ويلات الحرب التي شنها نظام بشار الأسد المخلوع ضد معارضيه.
مشهد الحشود التي وصلت عبر القطارات والحافلات أو سيرا على الأقدام من دول أوروبية مجاورة، ظل محفورا في ذاكرة الألمان، بين من استقبلهم بالورود وفتح لهم الأبواب، ومن وقف مصدوما ومتخوفا من قرار وُصف آنذاك بالجرأة وربما بالمجازفة السياسية.
قرار تاريخي غيّر المشهد السياسي
قرار ميركل الشهير الذي دافعت عنه بجملتها “فير شافن داس” (يمكننا القيام بذلك)، لم يمر من دون كلفة سياسية باهظة. فبعد عامين فقط، دخل حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف البرلمان للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، مستفيدا من موجة غضب شعبية غذتها المخاوف من تدفق اللاجئين.
ومع تراجع حزبها المسيحي الديمقراطي، وجدت ميركل نفسها مضطرة لإعلان تقاعدها السياسي في 2018، تاركة وراءها إرثا متناقضا بين الإنسانية والسياسة.
لاجئون يصنعون قصص نجاح… وسط تهديدات وكراهية
قصة اللاجئ السوري طارق الأوس تختصر الكثير من التحديات. فقد وصل إلى ألمانيا عام 2015، ونجح خلال سنوات قليلة في الحصول على الجنسية والترشح لانتخابات البرلمان عن حزب الخضر عام 2021.
لكن مسيرته تعطلت بعد تعرضه لحادثة عنصرية في القطار، وتهديدات متواصلة أجبرته على الانسحاب من السباق الانتخابي.
ورغم خيبته، يؤكد اليوم أن مجرد خوضه التجربة كان “انتصارا للديمقراطية”.
على الضفة الأخرى، يروي النائب جيان عمر، وهو أيضا من أصل سوري، كيف تحوّل مكتبه في برلين إلى هدف دائم للتهديدات والاعتداءات العنصرية، وصلت حد تهديده بالمطرقة وبعبارات تحاكي فظائع الهولوكوست.
لكن جيان، بخلاف طارق، صمد واستمر، محققا ولاية جديدة في البرلمان، ومؤكدا أن تراجع أمام المتطرفين ليس خيارا.
تبدل المزاج الشعبي وصعود اليمين
المزاج الشعبي في ألمانيا تغيّر خلال العقد الأخير. اللاجئون الذين استُقبلوا بحفاوة في البداية، أصبحوا مادة دسمة للخطاب اليميني المتشدد.
ودخول حزب “البديل من أجل ألمانيا” الشعبوي إلى البرلمان ساهم في جرّ الأحزاب التقليدية إلى تبني خطاب أكثر تشددا في قضايا الهجرة.
حتى حزب ميركل، الذي ارتبط باسمها كرمز للتسامح، ابتعد عن سياساتها فور تقاعدها، وتبنى في عهد فريدريتش ميرتس إجراءات صارمة كتقليص لمّ الشمل ومنع دخول المزيد من اللاجئين.
أشباح الماضي تعود
خطاب “البديل” تجاوز الحدود التقليدية، إلى درجة مناقشة خطط “إعادة الترحيل” لملايين المهاجرين، بما فيهم من يحملون الجنسية الألمانية.
تسريبات عن اجتماع سري في براندبورغ في عام 2023 لإحياء فكرة “الحل الأخير” أعادت إلى الأذهان أكثر فصول التاريخ الألماني قتامة.
ومع أن الأحزاب الأوروبية اليمينية الأخرى تنأى بنفسها عن “البديل”، فإن شعاراته مثل “أعيدوهم إلى أوطانهم” أصبحت أكثر حضورا في الشارع والسياسة الألمانية.
بين الاقتصاد والاندماج
رغم تصاعد الكراهية، تكشف الأرقام أن اللاجئين السوريين أسهموا بشكل ملموس في الاقتصاد الألماني.
نحو 64% منهم اندمجوا في سوق العمل والتعليم، فيما يشكل الأطباء السوريون (أكثر من 6500 طبيب) ركيزة أساسية للنظام الصحي الذي يعاني نقصا حادا.
ورغم ذلك، لا يزال كثيرون منهم يعانون من التمييز، كما توضح آلاء محرز، لاجئة سورية محجبة واجهت أسئلة عن حجابها في مقابلات عمل، لكنها تصر أن العقبات الحقيقية غالبا ما تكون في المهارات واللغة، أكثر منها في المظهر.
بعد عقد على قرار ميركل، تقف ألمانيا أمام مفترق طرق صعب: هل تستمر في الاستفادة من مساهمة اللاجئين في اقتصادها ومجتمعها، أم تسمح لأشباح الماضي أن تفرض نفسها من جديد عبر خطاب اليمين المتطرف؟
وبينما يجد السوريون في الديمقراطية الألمانية متنفسا حقيقيا، يبدو أن التحدي الأكبر اليوم بات داخليا: كيف تواجه ألمانيا شياطينها القديمة قبل أن تتحول إلى واقع يهدد مستقبلها؟