تقاريردول ومدنمجتمع
أخر الأخبار

إشكالية حرية التعبير في السويد

أخبار العرب في أوروبا – السويد

بعدما سمحت السلطات السويدية مجددا للمتطرف “راسموس بالودان” بحرق نسخة من القرآن الكريم في العاصمة ستوكهولم في وقت سابق هذا الشهر، عادت إشكالية حرية التعبير لدى هذا البلد الاسكندنافي الذي دائما يقول أن لا خطوط حمر لديه في حرية التعبير، لتثير الكثير من التساؤلات.

ويبدو أن حجة السلطات بأن هذا الحق مكفول في الدستور، ولا يمكن أن تجاوزه رغم أنه ينتهك مشاعر أكثر من ملياري مسلم حول العالم، لكن هذا الحجة سقطت في أول اختبار حين رفضت طلبا لشاب مصري بحرق نسخة من التوراة أمام السفارة الإسرائيلية، كان هدفه كما قال “إظهار زيف الادعاءات السويدية”.

من هنا، فإن “جدلية القانوني والمقدس” تسقط حين يتعلق الأمر بمجتمعات لها تأثير على صاحب القرار في السويد حيث عمل المسؤولين الإسرائيلين على الفور لمنع قيام الشاب مصري بحرق نسخة من الكتاب المقدس لليهود، رغم أن هذه الخطوة لاقت رفضا من الجالية المسلمة في السويد والتي أكدت على أن التوراة والإنجيل هي كتب مقدسة كذلك للمسلمين ولا يمكن قبول هذا التصرف.

لكن في محاولة لتشخيص شيء من تاريخ العلاقات بين الجانبين الجالية المسلمة والسلطات السويدية، تظهر أن هناك منذ فترة طويلة إشكالية الاندماج من ناحية، والخوف في دول المهجر من إحداث تغييرات دراماتيكية مستقبلية في البنية الاجتماعية والثقافية.

ورغم أن هذا الأمر يبدو منفصلا عن ما فعله المتطرف “بالودان” لكن هو في لب الموضوع، إذ كان بإمكان الجالية الضغط على السلطات كما فلعت إسرائيل، لكن قد تكون النتائج مختلفة لاسيما مع تواجد اللوبي الإسرائيلي في جميع الدول الأوروبية، وحينها يمكن الاعتماد على هذه النقطة أن السويد هي من تعمل على إثارة الفتنة حين تتعامل مع الطوائف الدينية بازدواجية مفضوحة.

تزايد كراهية اليمين للمهاجرين

أيضا فإن هذا العمل الذي قام به المتطرف”بالودان” والذي لاقى صدى من قبل يمينيين متطرفين في هولندا والدنمارك، أعاد من جديد إلى الأذهان احتمالات تزايد الكراهية بين التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا وبين المهاجرين التي ترغمهم بعض الظروف على إحداث تغييرات جذرية أحيانا في حياتهم، أو في حياة الأجيال الجديدة من أبنائهم.

كذلك، فإن هذا يتزامن مع صعود اليمين إلى سدة الحكم في العديد من الدول الأوروبية من بينها السويد نفسها، فضلا عن استمرار تزايد التأييد لليمين في العديد من دول القارة العجوز والذي جاء كانعاكس للحالة الاقتصادية التي تراجعت خلال العام الأخير، فضلا عن أن البعض يعتقد أن المهاجرين وخاصة المسلمين يرفضون الاندماج في المجتمعات الأوروبية، وخلق مجتمعات منفصلة لهم في تلك الدول، واتهام الجالية بأنها سبب لمعظم العمليات “الإرهابية” التي تتعرض لها بين الفينة والأخرى العديد من الدول في أوروبا.

لكن هذا الادعاء يضع اللوم على الدول نفسها التي فشلت في ادماج الجاليات المسلمة وعدم قدرتها رغم وجود الجيل الثالث من المسلمين في السويد على سبيل المثال، فضلا عن العنصرية المبطنة التي لا تزال موجودة وتكشف عنها الكثير من الدراسات التي وصلت حتى الاسم والذي يكون سببا لحرمان أحدهم من الوظيفة او استئجار منزل.

حرية تعبير ولكن

بالتأكيد بأن لا جدال حول أن سقف الحريات، وفي مقدمتها “حرية الرأي والتعبير”، في السويد والدنمارك وهولندا، وبقية دول الشمال الأوروبي، مرتفع للغاية وهي في مقدمة الدول بالعالم، وفقا لتصنيفات أوروبية ودولية. 

لكن، حين يتسبّب شخص مأزوم نفسينا، مثل مؤسس حزب “الخط المتشدد”، المتطرف راسموس بالودان، الدنماركي الحاصل على الجنسية السويدية قبل ثلاث سنوات، بإثارة ضجة بتصرفاته التي تستهدف حرق نسخ من القرآن، يهرع ساسة وصحافيون ونخب مثقفة إلى موقف يعارض “الممارسات المشينة والمخجلة”.

من بين هؤلاء رئيس الحكومة السويدية “أولف كريسترشون”، الذي أكد إدانته حرق نسخة من القرآن الكريم في ستوكهولم على يد “بالودان”.

وكتب بعد الحادثة بيوم على توتير “حرية التعبير جزء أساسي من الديمقراطية، ولكن ما هو قانوني ليس بالضرورة أن يكون ملائما”، مضيفا:” حرق كتب تمثل قدسية للكثيرين عمل مشين للغاية. وأريد أن أعرب عن تعاطفي مع جميع المسلمين الذين شعروا بالإساءة بسبب ما حدث في ستوكهولم”.

كما علق وزير الخارجية السويدي “توبياس بيلستروم” على الحادثة قام “بالودان”، معبرا عن رفضه للاستفزازات المعادية للإسلام “الإسلاموفوبيا”، واصفا إياها بـ”المروعة”.

وكتب الوزير على تويتر : “السويد لديها حرية تعبير بعيدة المدى، لكن هذا لا يعني أن الحكومة أو أنا نفسي ندعم الآراء التي يتم التعبير عنها”.

لكن يبدو أن هذه الإدانات من قبل المسؤولين السويديين جاءت بعدما هدد رئيس تركيا رجب طيب اردوغان بتأجيل النظر في قضية ضم السويد إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، لاسيما أن حرق المصحف الشريف كان بالقرب من السفارة التركية في ستوكهولم.

أيضا فإن السويد التي تعاني من أزمة اقتصادية كبيرة نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا، وجدت نفسها في الزاوية بعدما دعت جامعة “الأزهر” أكبر مرجعية إسلامية في العالم لمقاطعة المنتجات السويدية، في رد يبدو أنه سيضع المسؤولين السويديين في حيرة، لاسيما أن لم تخرج أي ردة فعل عنيفة ضد “بالودان” من قبل الجالية المسلمة في السويد وحتى الدنمارك التي أقدم فيها “بالودان” على حرق نسخة من القرآن في كونبهاغن الجمعة الماضية لحظة خروج المصلين من المسجد، وتم ذلك تمت حماية وأعين الشرطة تماما كما فعلت الشرطة السويدية.

أكبر من مجرد حرية للتعبير

مع الأزمة الأخيرة التي أشعلها مجددا “بالودان” يؤكد البعض من السويديين قبل المسلمين أنها أكبر من مجرد “حرية تعبير عن الرأي”. فالرجل (محام، ومحكوم سابق بالعنصرية) يعشق الإثارة (الشو) الإعلامية، بطريقة تثير بالفعل اشمئزازا اسكندنافيا.

أيضا فإن هذا الرجل ترجم ذلك أخيرا بالعديد من المواقف الداعية إلى عدم منح أمثاله في اليمين القومي المتطرف فرصة “تعزيز النرجسية”.

ويشير البعض إلى ادعاء السلطات بحماية حرية التعبير لايمكن أن يمنح لاشخاص مثل “بالودان” لاسيما أن الأخير قال حرفيا قبل فعلته الأخيرة في تصريح لصحيفة”بوليتيكن” الدنماركية: “هذا ما أريده (الضجيج الإعلامي)، لإظهار استحالة التعايش بين المسلمين ومجتمعاتنا”.

وفي حديثه للصحيفة برّر حرق نسخة من القرآن كـ”احتجاج” على موقف تركيا المعارض لتعليق دمية مشنوقة لرئيسها، رجب طيب أردوغان، باعتباره “حرية تعبير”. وهو ما يصب في مصلحة الأخير الانتخابية.

لعل الساسة في أقصى الشمال الأوروبي يدركون مع الوقت أن ازدواجية معايير حرية التعبير تؤسس لأحد أهم محركات الانقسام في مجتمعاتهم. فالإنسان البسيط، محليا ومن الخارج، يصعب عليه فهم تخصيص الاستخبارات حراسة مشددة لفعاليات بالودان، “الاستفزازية” بالتوصيف السياسي والإعلامي المحلي.

وفي مقابل “قداسة” حرية الرأي والتعبير إذا تعلق الأمر بالأصول المهاجرة، تُرتكب حماقات كثيرة، في سياق أوروبي غربي، حين يحتج مواطنون على دولة مثل إسرائيل على سبيل المثال التي تحتل الأراضي الفلسطينيية، ليس فقط تحت طائلة تهمة “معاداة السامية”، بل الويل لمن يقترب من سفارات إسرائيل ويحرق علمها أو التفكير بحرق نسخة من التوراة، هنا يتم الدعس على مبدأ حرية التعبير عن الرأي.

اقرأ أيضا: الخوف من سحب السوسيال للأطفال يدفع عائلات مهاجرة لمغادرة السويد

ويحاول المسؤولون في السويد تجاهل أن ما يقوم به “بالودان” هو أكبر من مجرد حرية التعبير عن الرأي بل هو عمل يُظهر تطرفا يستهدف ديانة بأكملها لنحو ملياري إنسان في العالم، وكذلك أتباع هذه الديانة في السويد نفسها ممن يفترض أنهم تحت ذات سقف المواطنة والحريات، الأوسع من مجرد شراء نسخة من القرآن وحرقها.

وفي ذلك يكمن خطر هذا الفعل، خاصة أن هذا الأمر محصور لدى هذه الديانة دون غيرها حيث تم رفض أي طلب لحرق نسخة من التوراة كما فعل الشاب المصري، الذي قال إنه طلبه جاء لكشف زيف ادعاءات السويد حتى قبل أن يتم رفض طلبه بشكل رسمي.

من هنا فإن أي ادعاء بأن السويد أنها وصلت إلى الكمال الحقوقي والإنساني، هو محض افتراء إلى حين تسمح بحرق جميع النسخ المقدسة أو منع حرقها جميعا إذا كانت غير قادرة على ذلك، على الأقل لتحفظ ماء وجهها أمام العالم.

ولن تتاثر نظرة العالم لو تم منع نماذج مثل “بالودان” بأن السويد تحترم حرية الإنسان وتحترم مشاعرهم بل هو موقف يعتبر أرقى انواع حقوق إنسان حين يتم منع شخص يحاول استفزاز ملياري شخص، كما فعلت فنلندا التي تعتبر متقدمة نوعا ما على السويد من حيث حرية التعبير وحقوق الإنسان-وفقا للتصنفيات الدولية- حيث أكدت السلطات الفنلندية رفضها قبل أيام حرق أي نسخ من الكتب المقدسة على أراضها.

إذ قال متحدث باسم الشرطة الفنلندية بعد حادثة بالودان وبصوت عالي :”حرق الكتب المقدسة مخالفا للقانون ويفسر على أنه تحريض على كراهية مجموعة من الناس وانتهاك المعتقدات الدينية”، موضحا بالقول:”إنها حقوق دستورية في  فنلندا أيضا، لكن ينبغي الموازنة بين المصالح المختلفة. حرية التعبير مشروطة وهناك حدود لها”.

تبدو حرية التعبير عن الرأي في السويد هي “حرية انتقائية موجهة” أي حين يتعلق الأمر بالقرآن تكون هناك حرية تعبير، ولا مانع من حرقه حتى أمام المسجد وخلال خروج المصلين منه، وحين يكون الأمر لكتاب مقدس آخر يصبح الأمر مثيرا للكراهية، وهذه الازدواجية الفاضحة في المعايير من قبل السلطات السويدية، هي نفسها أيضا تثير استفزاز الكثيرين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى